ليس كل من يقف أمام السبورة معلّماً، بعضهم ناقل للمعلومة…وبعضهم صانع للإنسان. رحل د. جاسم ملك قبل أيام، فشعرتُ أن الكويت لم تفقد شخصاً، بل فقدت مؤسسة تربوية تمشي على قدمين.
كان ملك مختلفاً؛ لم يكتفِ بإلقاء الدروس، بل صنع أدواتها: مفكرة صُنّاع النجاح، المعلم الأسطورة، مفكرة الأسرة. كان يدرّب المعلّم ليكون رسالياً لا موظفاً، ويعلّم الطالب أن الفضول أهم من الحفظ. لقد كان يسأل دائمًا:
هل نريد جيلاً يحفظ الدروس…أم جيلاً يصنع الدروس؟
لم تكن تدريباته عابرة؛ كان يحرص على إشعال شغف المعلم برسالته قبل أن يعطيه مهارات التدريس، مؤمناً أن المعلّم إذا استعاد المعنى سيستعيد معه احترام الطلاب وثقتهم.
رحيله فتح في ذهني سؤالًا مُراًّ: هل أعدّت مدارسنا معلمين أم مكرّرين؟
جيل كامل من الطلبة اليوم يدخل الصف ولا يجد إلا معلّماً متعباً، منهكاً بالروتين، خائفاً من الخطأ أكثر من حماسه للصواب.
الأنظمة التعليمية التي تصنع معلّمين من طراز “ملك” نادرة، لأن صناعة المعلّم أصعب من صناعة المنهج. نحن نُبدّل الكتب كل عام، لكننا نترك المعلّم بلا تدريب، بلا رسالة، بلا معنى…ثم نتساءل لماذا يتمنّى بعض أبنائنا الموت بدل العودة للمدرسة!
لقد رأيت بأمّ عيني بعض معلميه وتلامذته وقد تأثروا به، ليس بما قاله لهم بل بما مثّله أمامهم: قدوة حيّة تُدرّس الأخلاق قبل المنهج. كان يرى في كل طالب مشروعاً إنساناً، وفي كل معلّم مشروع نهضة.
لقد علّمني رحيله درساً شخصياً: أن أعظم استثمارٍ في التعليم هو زرع المعنى في قلب المعلّم أولاً، لأن المعلّم الذي يكتشف رسالته يُصبح أقوى من أي جهاز ذكي وأعمق من أي منهج مكتوب. نحن بحاجة إلى برامج وطنية تُعيد للمعلم مكانته كقدوة وصانع هوية أجيال، وإلا سنظل نُبدّل الكتب ونتجاهل الإنسان الذي يُدرّسها.
مات الأستاذ…ولكن بقي السؤال: كم د. جاسم ملك نحتاج لإنقاذ التعليم في الكويت؟
هل نمتلك في كليات التربية القدرة على تخريج معلمين رساليين، أم أننا ما زلنا نخرّج مكرّري شرائح عرض ودفاتر تحضير؟
ربما كان رحيله نداءً خفياً لنراجع أنفسنا: نحن نعيش أزمة “معنى المعلّم” قبل أزمة المناهج. التعليم لا يُقاس بعدد الأجهزة الذكية في الصف، بل بعدد المعلمين الذين يزرعون المعنى في العقول.
المعلّم الحقّ لا يدرّس مادّة…بل يدرّس معنى. هذا هو الدرس الذي تركه لنا د. جاسم ملك، وهو الدرس الذي لا ينبغي أن يموت.
فلنكرّمه بالطريقة الوحيدة التي تليق بإرثه: أن نصنع من كل معلمٍ في مدارسنا مشروعاً للنهضة…لا مجرد ناقلٍ لكتاب.