في زمنٍ صارت فيه بعض الجامعات الخاصة تُحقّق أرباحاً تفوق ما تحقّقه جامعة هارفارد، لم تعد المفارقة مضحكة… بل مؤلمة. لا مبالغة في الأرقام، فالربح مشروع، لكن حين يُصبح التعليم بورصةً، تتحوّل الشهادة إلى سهم، والعقل إلى فائض لا يُحاسب عليه أحد.
في الكويت، تنتشر جامعات خاصة تفتقر إلى الحدّ الأدنى من البحث العلمي، وتخلو من التراكم المعرفي. تُخرّج آلاف الطلبة ممن لا يستطيعون كتابة فقرة حقيقية من أنفسهم، لكنهم يُمنحون شهادات بدرجات عليا. لا يُطلب منهم أن يُفكروا… فقط أن يُسلّموا المطلوب.
شاركنا الدكتور عماد خورشيد تقريراً جريئاً كُتب باستخدام الذكاء الاصطناعي. التقرير صاغه الذكاء… لكنه نطق بما لا يجرؤ كثير من البشر على قوله: هذه المؤسسات تُدرّس… لكنها لا تُعلّم. تمنح… لكنها لا تُربّي. تُخرّج… لكنها لا تُفكر.
نُموّل هذه الجامعات من المال العام، وندعمها بالبعثات، ثم نُصدّر إلى سوق العمل خريجاً لا يجيد إلا الاستذكار اللحظي، والبحث السطحي، والنجاح الورقي. أما أخطر ما في المشهد، فهو أن حتى النقد صار مزيفاً… يُكتب بالذكاء الاصطناعي، ويُنشر باسم بشر!
لقد وصلنا إلى مرحلة تفوّق فيها خطاب التسويق على خطاب التكوين. صار الإنجاز يُقاس بعدد الخريجين، لا بنوع المعرفة. تُلقّن اللغة الإنجليزية بلا فهم، وتُنجز البحوث بلا أثر. البحوث تُكتب… لكنها لا تُقرأ، ولا تُلامس المجتمع.
وفي المقابل، جامعات كبرى كـ «هارفارد» تُنفق الملايين على البحث العلمي وحده، تُحاسب طلبتها على كل فقرة، وتُعلي من قيمة النقاش لا الحفظ، والنقد لا الانقياد.
أما هنا، فكل شيء متوافر: القبول مضمون، الجداول مرنة، التخرج سهل… إلا العقل. هو الغائب الأكبر.
فهل فقدنا القدرة على مواجهة هذا التعليم الهش؟ هل تواطأنا – بوعي أو دون وعي – على خيانة المعرفة؟ هل أصبح الذكاء الاصطناعي أكثر صدقاً منّا؟
ربما لم تعد القضية في الجامعة، ولا في الأستاذ، ولا حتى في الخريج… بل في المنظومة كلها، التي تُفضّل شراء الورقة على تنمية العقل.
في إحصائية صادمة، تُشير التقارير المالية إلى أن إحدى الجامعات الخاصة في الكويت تُحقّق أرباحاً سنوية تتجاوز 40 مليون دينار. رقم يكاد يُقارب ميزانيات دول… لكنه لا يُترجم إلى جودة أكاديمية ولا أثر علمي. لا أبحاث منشورة، لا مراكز تفكير، لا خريجين يقودون التغيير. فقط صمت أكاديمي، ورضا تجاري، ومخرجات تُقدّم كأرقام… بلا مضمون.
وهنا، لم يعد السؤال: كيف نُطوّر التعليم؟ بل: كيف نُعيد تعريف التعليم من الأساس؟
نحن لا نعيب على الجامعات أن تربح، بل نعيب أن يكون الربح هو المنهج الدراسي الوحيد الذي تتقنه.
وكما تُلزم الشركات بزكاة المال… فلِمَ لا نُلزم الجامعات بـ «زكاة عقل»؟ عُشر من أرباحها يُستثمر في البحث، في التفكير، في إنقاذ العقول التي تصنع الفرق.
وربما… آن الأوان لإنشاء هيئة وطنية مستقلة تراقب جودة العقل الجامعي. هيئة تُقيم المناهج لا الجدران، تراجع المحتوى لا الإعلانات، وتمنح الثقة لا التراخيص فقط. لأن التعليم إذا صار بورصة… فلن يُخرّج مفكّراً، بل مضارباً على الشهادة.