نتقن توقيع الأسماء، وننسى كيف نكتب فكرة.
في حفلات التخرُّج، تُرفع القبعات، وتُوزَّع الشهادات، وتُصفِّق الجماهير. لكن حين يُطلب من الخريج أن يكتب فقرة عن شعوره… يصمت. وحين يُسأل عن رأيه بلغة واضحة… يتلعثم. كأن الشهادة لم تمرّ على لسانه، ولا تركت أثراً في قلمه. كيف نحتفل بشهادات لا تُنتج جُملاً مفهومة؟ في عصر السوشيال ميديا، صار الطالب يُغرِّد أكثر مما يُعبِّر، ويُرسل الرموز والملصقات بدل الجُمل الكاملة، لغة مختصرة… عقل مختصر… إحساس مختصر.
في دراسة نشرتها Education First عام 2023، تراجع ترتيب الدول العربية في مهارات الكتابة الأكاديمية والتحليلية، وجاء أن أكثر من 62 في المئة من الخريجين يواجهون صعوبة في التعبير الواضح، حتى عن أنفسهم. المفارقة أن الطالب يتخرَّج بـ «امتياز»، لكنه يكتب البريد الإلكتروني الرسمي بلغة «واتساب»، يُراسل جهة العمل بلا مقدمة، ويصف نفسه بكلمة: طموح! الشهادة صارت جسداً بلا لسان. مدارسنا تُدرِّس النصوص… ولا تُدرِّب على النَفَس الكتابي. الجامعة تُقيم الاختبارات، لكن لا تُقيم الأسلوب. يُقال إن اللغة بيت الفكر… فهل نُخرِّج أجيالاً بلا بيوت؟ هل نُسلِّمهم أوراقاً، ونترك عقولهم مشرَّدة لغوياً؟ اللغة ليست حصة… بل هوية، وإذا غابت اللغة… ضاع الوعي.
فيا أصحاب الشهادات، قبل أن تفتخروا بالورق… اسألوا أنفسكم: هل أستطيع أن أكتب من داخلي… لا من «غوغل»؟ في أحد فصول الجامعة، طلب الأستاذ من الطلبة أن يكتبوا مقالاً حُراً من صفحة واحدة… تنهَّد البعض، وتذمَّر البعض، وسأل أحدهم: «فيه نموذج أكتبه عليه؟»، وكأن التعبير صار خارج المنهج، وكأن اللغة لا تُستعمل إلا في ملء الفراغات. تَخرَّج الطالب بعد ثلاث سنوات من القراءة، لكنه لا يستطيع أن يكتب رسالة تهنئة دون الاستعانة بالقوالب الجاهزة. لغته تُشبه جُملة محفوظة من عرض بوربوينت… لا إحساس فيها، لا صوت، لا هوية.
في دراسة من British Council، تبيَّن أن أكثر من 70 في المئة من خريجي الجامعات العربية يُعانون «الخوف الكتابي»، أي عدم القدرة على الشروع في كتابة فكرة إلا عند نقلها أو الاستعانة بمصدر. وكأن العقل فقد عضلة اللغة، بسبب التكرار، والنسخ، والصمت الطويل. نحن لا نُدرِّس اللغة، بل نُضعفها دون قصد. نصحح الأخطاء الإملائية، لكن لا نعلِّم صناعة الجُمل. نمدح مَنْ يحفظ الدروس، لكن لا نسأل: ماذا كتبت يوماً بيدك؟ نخاف من التعبير، لأنه يكشفنا، ويكشف ما لا نعرف. اللغة ليست مجرَّد أداة اتصال، بل هي مرآة العقل. وحين تتكسَّر المرآة، نظن أننا بخير، لكننا في الحقيقة لم نعد نرى أنفسنا.
فيا مَنْ توزِّعون الشهادات، لا تسألوا فقط عن عدد المواد المُجتازة، بل اسألوا: هل يستطيع هذا الخريج أن يكتب فقرة حقيقية عن نفسه… دون أن ينسخها؟ وقبل أن نُعلِّق صورة التخرُّج على الجدار، فلنُعلِّق سؤالاً في عقل كل طالب: هل أمتلك لغتي؟ أم أبحث عن صوتي بين أوراق الآخرين؟ فلنسترد صوته، ونُعيد للغة مكانها: في القلب، لا بورقة الامتحان. ولِمَ لا نبدأ بمبادرات أسبوعية: «قُل فكرتك»، «دوِّن رأيك»، «ناقش باحترام»؟ هكذا فقط… نزرع لغة تُنطق، لا تُنسى.