يونيو 13, 2025

الراحة تُدرّس… والفكر في إجازة دائمة!

يونيو 13, 2025

جيل مريح، لكنه لا يتحمَّل وزن فكرة.

في زمن أصبحت الراحة شعاراً تربوياً، بات السؤال الأخطر: هل نحن نُعلّم؟ أم نُدلّك؟ اختُزل التعليم في بيئة ممتعة، سهلة، خالية من الضغط، لكن ما النتيجة؟ طلاب لا يحتملون مشقة التعمُّق، ولا يقاومون ملل الصمت، ولا يجرؤون على الخروج من منطقة الراحة.

في دراسة حديثة نشرتها American Psychological Association عام 2022، تبيَّن أن المبالغة في تسهيل المحتوى الدراسي ترتبط بانخفاض قدرة الطالب على التفكير التحليلي، وأن الطلاب الذين وُضِعوا أمام تحديات ذهنية معتدلة أظهروا أداءً أعلى بنسبة 40 في المئة في فهم المفاهيم طويلة المدى. لكننا في نظامنا نُربِّي أبناءنا على الحواف: لا امتحان صعباً… لا فكرة معقدة… لا جهد زائداً. الكل ناجح، والكل مُرتاح، والكل يملُّ من التفكير بعد 5 دقائق.

هل أصبحت المدارس منتجعات؟ في كل حصة، نبحث عن «لعبة»، «نشاط»، «تطبيق»، «معلومة سريعة»، ونخاف من الصمت، من التأمل، من فكرة تأخذ وقتها. نُعلِّمهم أن الفكر يجب أن يكون خفيفاً، كالترفيه. فإذا جاءهم نصّ ثقيل سقطوا من أول سطر. نحن لا نُريح عقولهم، بل نُخدِّرها، نُعلِّمهم أن الفهم السريع أفضل من العُمق، وأن مَنْ يتعب في التفكير مُخطئ في الأسلوب. وهكذا صِرنا نُخرج جيلاً بارعاً في الانطباع الأول، لكنه ضعيف في المتابعة، متوتر من أي سؤال خارج المقرر، ويطلب دائماً: «أبسط… أبسط!».

فيا مَنْ تُزيِّنون الراحة، هل فكَّرتم يوماً في أن الراحة المُفرطة لا تُنتج شيئاً؟ وأن الفكر الحقيقي لا يسكن في وسادة، بل في تحدٍّ؟ في فصل دراسي مثالي، يطلب المعلم من الطلبة أن يفتحوا أجهزتهم، ويشاهدوا فيديو مدته دقيقتان، ثم يجيبوا عن اختبار اختياري لا يُحاسب عليه أحد. ينتهي الدرس بابتسامة، لكن لا أحد تذكَّر الفكرة، ولا أحد تساءل: ماذا بعد؟ لقد تحوَّل «التعليم» إلى محتوى خفيف، سريع الهضم، يُستهلك، ثم يُنسى. كل شيء يجب أن يكون قصيراً، ممتعاً، بلا ضغط. لكن السؤال: هل هذه راحة؟ أم استقالة فكرية جماعية؟

الطلاب باتوا يتضايقون من القراءة، يكرهون الجدل، يتوترون من كلمة «ناقش»، يريدون ملخصاً، شرحاً سريعاً، ثم راحة. ومع الوقت، يتعوَّد الدماغ على الكسل، فلا يعود يتحمَّل أي فكرة طويلة النَّفس. في تقرير نشرته Education Week، وُجد أن أكثر من 70 في المئة من الطلبة الأميركيين يفضِّلون «المصادر السهلة» على القراءة الأصلية، ويُظهرون أداءً أقل في الاختبارات التي تتطلب تحليلاً نقدياً أو تركيباً مفاهيمياً.

الراحة ليست عدوة العلم، لكن الإفراط فيها يُنتج هشاشة معرفية، فكما أن الجسم الذي لا يتحرَّك يضمر، فإن العقل الذي لا يُتعب يُفرغ من محتواه. نعم، نحتاج إلى بيئة داعمة، ومناهج ذكية، لكن الذكاء لا يعني التبسيط المفرط، بل يعني أن نُدرِّب أبناءنا على «احتمال الفكرة»، لا مجرَّد «استهلاكها»، وأن نربِّي صبرهم العقلي، لا فقط راحتهم اللحظية.

فكرٌ مرتاح لا ينهض بوطن، ووعيٌ بلا جهد لا يبني حضارة. فيا مَنْ تُدرِّسون الراحة، هل فكَّرتم في أن الفكر نفسه يرتاح حين يتعب، وأن الإجهاد المؤقت للعقل هو ما يمنحه المرونة لاحقاً؟ وأن الراحة التربوية بلا تحدٍّ مجرَّد ديكور في منتجع، لا محرِّك لعقل ناهض؟

Scroll to Top