مايو 23, 2025

حين يصبح الغش ذكاءً… والصدق غباءً

مايو 23, 2025

في زوايا الصفوف، لم يعد الغش سلوكاً معيباً… بل مهارة تُتداول بصمت. الطالب الذي يُخفي ورقة، أو يُصوّر الإجابة، أو يتحايل على المراقب، لا يُعاتب… بل يُمدَح: «ذكي، يعرف من أين تُؤكل الدرجة». أما الطالب الصادق؟ فهو “المسكين”، الذي لا يعرف كيف «يتصرّف».

فهل تغيّر تعريف الذكاء؟ وهل أصبح الالتفاف هو الطريق الأسرع إلى النجاح؟ وهل تحوّل الصدق من فضيلة إلى عبء؟

وفق تقرير منظمة OECD لعام 2021، اعترف أكثر من 67% من طلاب الثانوية في عدة دول بأنهم مارسوا الغش مرة واحدة على الأقل، لا بسبب الكسل… بل خوفاً من الفشل أمام من يُتقنون الغش.

هكذا تشوّهت القيم، وصار الغش جزءاً من ثقافة الصف، بينما أصبح الصدق موقفاً «غير واقعي». تحوّلت المدارس من أماكن للمعرفة… إلى سباقات ملوّثة، لا تكافئ الفهم، بل تُتاجر بالدرجات.

الطالب الذي يغش يعرف أن المنهج لا يُضيف إليه شيئاً، وأن العلامة تُعني أكثر من الفهم. أما المعلم؟ فكثيراً ما يغضّ الطرف… لأنه هو الآخر ضحية نظام يُقيّمه بناءً على النتائج، لا المبادئ.

وبهذه الطريقة، وبهدوء مرعب، نُخرّج جيلاً ماهراً في التحايل، بارعاً في التهرب، محترفاً في حفظ المعلومة… لا في فهمها، وفي الوصول… لا في الطريق.

الطالب الذي صمت حين رأى الغش تعلّم درساً أخطر من كل ما في المنهج: أن «الذكاء» يعني أن تتجاهل الخطأ، وأن تسلك الطريق المختصر، وأن لا تقول الحقيقة… إن لم تنفعك.

في أحد الصفوف، رُصد طالب وهو يغش… لم يُعاقب، بل سُمِع من زملائه من يهمس بإعجاب: «فنان… عرف يطلع منها»، بينما الطالب الذي كتب بإخلاص، وخرج متأخراً بلا تفوق… طأطأ رأسه. لأن «صدقه لم يكن كافياً».

فهل صرنا مؤسسات تمنح درجات… لا قِيَماً؟ وهل أصبحنا نُكافئ الوصول، بغضّ النظر عن الطريق؟ هل السرعة والنتيجة أهم من المبدأ؟

دراسة من جامعة كامبريدج (2020) كشفت أن الطلبة الذين يمارسون الغش المتكرر يفقدون تدريجياً ثقتهم في قيمة المعلومة، ويستبدلون الاجتهاد بفن «الخداع المتقن»، ويقيسون النجاح بالحيلة لا بالكد.

وهكذا، يتحوّل الغش من سلوك خاطئ… إلى فلسفة حياتية، تُعلّم التهرب، وتُكرّس مبدأ: «ما لم تحققه بجهدك… خُذه بالخداع».

لكن الأخطر من الغش نفسه… أن يراه الجميع ويصمت. أن يتحوّل من استثناء إلى أعراف تربوية، ومن عيب إلى مهارة، وأن يُصنَّف الصدق بأنه «جميل، لكن غير واقعي».

المدرسة التي تسكت عن الغش… تُدرّس الكذب دون أن تكتب حرفاً. والمعلم الذي يُساير المتفوقين بالغش… يخرّج جيلاً لا يثق بأحد.

لا تسألوا عن انهيار التعليم… اسألوا من الذي غيّر تعريف الذكاء؟ ومن الذي جعل الخداع طريقاً للتميّز؟ ومن الذي ربّى جيلاً يُصفّق للدهاء… ويصمت على النزاهة؟

نُريد ذكاءً نقيّاً لا دهاءً ملوثاً، ونُريد صدقاً فخوراً… لا صدقاً محبطاً يُقال عنه: «كان ممكن تغش وتنجح، لكنك اخترت الغباء!».

فيا صُنّاع المنظومة، هل ما زلتم تُكرّمون الأوائل… دون أن تسألوا: بأي طريقة وصلوا أولاً؟

Scroll to Top