كل يوم، يدخل الطفل فصله بابتسامةٍ عفوية، ويخرج بورقة تقييم. الابتسامة تذبل تدريجياً، والورقة تكبر، لكن لا أحد يسأل: هل يكبر عقله كما تكبر درجاته؟
نعلِّمه كيف يجاوب… لا كيف يسأل. نزرع فيه الطاعة… لا الجرأة. نُدرِّبه على كتابة الجواب النموذجي، ثم نتساءل: لماذا لا يملك رأياً خاصاً؟!
في دراسة نشرتها مجلة Childhood Education عام 2022، وُجد أن 64 في المئة من الأطفال في المرحلة الابتدائية يشعرون بالقلق أثناء الحصة، و52 في المئة لا يطرحون أسئلة، خوفاً من الخطأ أو السخرية.
الطفل يتفوَّق في الصمت… لا في التعبير. يتعلَّم أن «الهدوء = أدب»، و«الجرأة = مشكلة». يُصبح المثالي حين ينسجم مع القالب… لا حين يُحاول كسره.
وفي البيت، نواصل النسخة ذاتها: لا تسأل، لا تعاند، لا تتفلسف! ثم نقول له لاحقاً: كُن مبدعاً، قيادياً، متحدثاً لبقاً!
الطفل ليس سطراً نُراجع عليه الصح والخطأ، بل هو إنسان صغير يبحث عن مساحة ليتكلَّم، ليتردَّد، ليُخطئ، من دون أن يُقصى.
كم من طفلٍ خرج من المدرسة بظهرٍ مستقيم… وعقلٍ مكسور؟
فيا مؤسسة التربية، نُريد طفلاً يفكِّر، لا يكرِّر. يسأل، لا يحفظ. يفرح بالمدرسة، لا يخاف السؤال، لأن الخطر ليس في انخفاض مستواه، بل في اختفاء صوته، وذوبان فكرته، وتعلُّمه المبكِّر كيف يُرضي من دون أن يُعبِّر.
في الفصل، الطفل المثالي هو الذي لا يُقاطع، لا يُجادل، لا يُثير الأسئلة، لا يُبطئ الدرس، لكنه في الحقيقة يُبطئ عقله، ويقاطع فكرته، ويُحذف من صياغة ذاته.
نتعامل مع الأطفال وكأنهم أجهزة استقبال لا يُسمح لها بالبث. المعلِّم يشرح، والطفل يهز رأسه، لكنه لا يفهم لماذا، ولا يُسمح له أن يقول: «أنا لا أتفق». حتى كلمة «لم أفهم» صارت جريمة تُهدد سُمعته في الفصل.
في المنزل، تتكرَّر الجُمل: «لا تعاند»، «لا تناقش»، «نفِّذ بس». ثم نتوقع منه أن يُصبح مُبتكراً ومُبادراً ومُقنعاً في المستقبل… كيف؟ وهو لم يُدرَّب إلا على الصمت والاتباع.
في دراسة لـ «يونيسف» 2021، أشارت إلى أن الأطفال في البيئات التي تُقيِّد الأسئلة وتُكافئ السلوك الخاضع، يُظهرون تراجعاً مبكراً في مهارات التفكير النقدي والخيال.
المشكلة ليست في ضعف الطفل، بل في شدة الضغط عليه ليُرضينا. في توقُّعنا منه أن يكون نسخةً مصغَّرة من «الطفل المثالي النموذجي»… الذي لا يُخطئ، لا يسأل، لا يعترض.
ونحن نُسقيه هذا الظل، ثم نُفاجأ لماذا ذبل.
الطفل الذي لا يُمنح حق السؤال، سيتعلَّم لاحقاً أن يصمت حتى عن رأيه، ومشاعره، وحلمه.
فيا مناهجنا ومدارسنا وأُسرنا، لا نريد أطفالاً مُطيعين… نريد عقولاً حُرة، تُحب الحياة، وتُخطئ، وتجرِّب، لأن أخطر ما نفعله هو أن نُخرج طفلاً بلا فكرة، ثم نُصفِّق له، لأنه لم يُزعجنا يوماً.