في زاوية من البيت، يجلس الطفل مشدوهًا أمام شاشة صغيرة، عيناه مشدودتان، فمه نصف مفتوح، وجسده لا يتحرك. تناديه، يحاول أن يلتفت، لكنه لا يسمعك فعلاً…إنه في عالم “كوكو ميلون Cocomelon” – ذلك البرنامج الملوّن السريع الذي يُبرمج انتباه الطفل على الإثارة الدائمة.
الطفل لم يعد يحتاج إلى من يعلّمه…فقط إلى من يُشغّله.
نُعطيه الهاتف ليهدأ، ليصمت، ليكف عن الإزعاج. فنرتاح…لكن من الذي يُربّيه في هذه اللحظة؟ ليس الأب، ولا الأم…بل الشاشة.
في دراسة نُشرت في مجلة Pediatrics عام 2022، وُجد أن الأطفال الذين يستخدمون الأجهزة الذكية لأكثر من ساعتين يومياً قبل سن الخامسة يُظهرون تأخراً في المهارات اللغوية، وانخفاضاً في التفاعل الاجتماعي بنسبة تصل إلى 42٪.
نحن لا نسكت الطفل فقط…نحن نُسكِت قدرته على التخيل، على التجاوب، على بناء جملة كاملة. كأننا نُطفئ جهازه العقلي بالتدريج…ونشحن جهازه اللوحي بدلاً منه.
الآيباد لا يُربّي…لكنه يُبدّد. يملأ وقت الطفل…لكن لا يضيف لعقله. يُهدّئه خارجياً…لكنه يُربكه داخلياً.
أخطر ما نفعله حين نُسلّم الهاتف لطفل صغير…هو أننا نُعلّمه أن التسلية أهم من الفهم، وأن السكوت أهم من المشاركة.
فيا آباء الشاشات، الراحة اللحظية قد تُكلّفكم تعباً طويلاً. وكل مرة “تفتكّ فيها من طفلك” بجهاز…قد تكون أنت من يفتك بذكائه، بعفويته، بلغته، وبتكوينه النفسي.
الهاتف قد يكون أداة تعليم…نعم، لكن حين يُستخدم بعد الوعي…لا قبله. حين يُضبط…لا يُطلَق. وحين يُرافقه أب حيّ…لا أب مشغول.
في الماضي، كان الطفل إذا جلس مع الكبار يسمع لغة، يشاهد نقاشاً، يلتقط مفردات الحياة…أما اليوم، فهو يُقضّي ساعات يومه مع شاشة تُكرّر أنشودة واحدة عشرين مرة، وتُبدّل المشهد كل ثانيتين، وتُضحكه بلا سياق.
لا عجب أن الطفل يملّ من الكتاب خلال دقيقة، ويصرخ إذا لم يتحرّك المشهد فوراً، ولا يستطيع أن يكمل جملة واحدة دون أن يُقلّد صوت شخصية كرتونية.
هل نُدرك أننا نُشكّل أدمغة أبنائنا على الإدمان البصري؟ هل نُلاحظ أن التركيز يقل، والانتباه يتشظى، واللغة تذبل… ونحن نصفّق لأنه “ساكت“؟
في تقرير صدر عن منظمة Common Sense Media عام 2023، تبيّن أن الأطفال دون سن الخامسة في البيوت التي تُستخدم فيها الأجهزة كأداة تهدئة، يُظهرون سلوكاً أكثر تهيّجاً، وانخفاضاً في مهارات التواصل لاحقاً بنسبة 61٪.
التربية ليست “إخماد صوت الطفل“…بل إطلاق عقله ليُعبّر. وليست “ملء الوقت“…بل صناعة الفكرة.
حين نُعطي الهاتف لنُريح أنفسنا…نُخسرهم بالتقسيط. وكل لحظة صمت مزيف أمام الآيباد…تُسحب من رصيد الطفولة الحقيقية.
فيا من تُربّون أبناءكم بـ“هدوء صناعي“، تذكّروا أن الطفل الذي لا يزعجكم اليوم…قد لا يعرف كيف يتفاعل معكم غداً.
وأن أسهل قرارات اليوم…هي أصعب مشكلات الغد. وأن الهاتف الذي يُسكت الطفل الآن…قد يكون هو نفسه الذي يصنع انفصاله عنكم بعد سنوات…حتى لو كنتم تجلسون في نفس الغرفة.