سبتمبر 26, 2025

العقل حاضر في الغياب…وغائب في الحضور!

سبتمبر 26, 2025

في كل صباح، تُسجّل الأسماء. فلان؟ موجود. فلانة؟ حاضرة. لكن لا أحد يسأل: هل حضر العقلأم أن الجسد فقط أدّى التحية؟

في مشهد متكرر، يجلس الطالب في الصف، عيونه مفتوحة، ودفتره على الطاولةلكنه غائب تماماً: يفكر في مباراة، أو يغرق في الشاشة الصغيرة، أو يكتب شيئاً لا علاقة له بالمادة. لكنه محسوب ضمن الحضور.

في دراسة نشرتها Harvard Business Review عام 2023، تبيّن أن أكثر من 58٪ من الطلاب الجامعيين يحضرون الصفوف دون أي تفاعل فعلي، وأن مفهومالحضور الذهنيأصبح التحدي الأكبر في العملية التعليمية.

نحن نُدير التعليم كما لو أنه حفل غياب رسمي. نبحث عن الكرسي المشغوللا العقل المنشغل. نعاقب المتغيب عن الجسدونغضّ الطرف عن المتغيب عن الوعي.

في فصول كثيرة، يُمدح الطالب الهادئلا لأنه يشارك، بل لأنه لا يُزعج! ويُثنى علىالمنضبطالذي لم ينطق بكلمة طوال الفصل، حتى لو لم يفهم شيئاً مما قيل.

العقل لا يُقاس بالحضوربل بالتماس. فهل لمس المعلومة؟ هل تحرّك بالسؤال؟ هل ارتبك بالفكرة؟ أم أنه حضر بصمتوخرج كما دخل؟

في حصة من الحصص، طلب المعلم من الطلاب أن يناقشوا فكرة خارج الكتابساد الصمت. البعض خاف من الخطأ، البعض لا يعرف رأياً، والبقية ينتظرونالنموذج الصحيح“. هكذا نكتشف أن الحضور لا يعني الفهمبل أحياناً يعني فقط: توقيت الجلوس والانصراف.

في تقرير صادر عن منظمة OECD عام 2022، أشار إلى أن قلة المشاركة الصفية وانعدام التفاعل مرتبطان ارتباطاً وثيقاً بمعدلات غياب غير معلن يسمّىالغياب الصامت، وهو شكل من أشكال الحضور الجسدي مع انفصال ذهني كامل.

كم عقلاً غاب اليوموهو جالس أمامنا؟ وكم فكرة وئدت لأنها لم تجد من يستمع؟ وكم طالباً تفوّق بدرجةوغاب بفكره طوال العام؟

نحن لا نُدرّس العقلبل نُسجّل عليه حضوراً شكلياً. وحين نُخرج جيلاً يتقن الحضورولا يُجيد الانتباه، فنحن لم نُعلّمه، بل درّبناه على التمثيل.

الوعي لا يأتي من الحضور فقطبل من السؤال، من الخلاف، من التفاعل، من صوت الطالب حين يقول: “أنا لا أفهموأريد أن أفهم.” هذا هو الحضور الحقيقي: أن يهتز عقل الطالب أمام فكرةلا أن يجلس صامتاً كأنه جدار.

فيا أيها التعليم، كفّ عن عدّ الأجساد، وابدأ بوزن العقول. وابحث عن الغياب الحقيقيفي صمت الذين لا يُفكّرون.

الحل ليس في ورقة الحضور، بل في إشعال العقول. فلنعد تصميم حصصنا لتكون مختبرات تفكير لا قاعات إنصات، ونمنح الطالب الحق في السؤال قبل الإجابة، وفي النقاش قبل التلقين.

ليبدأ كل معلم بحساب عدد الأسئلة التي طرحها الطلاب لا عدد الكراسي المملوءة، وليقيس نجاحه بعدد العقول التي استيقظت في حصة واحدة، لا بعدد الأجساد التي قالت: “حاضر”.

عندها فقط يصبح الحضور حضوراً حقيقياًوتعود الفصول ممتلئة بالحياة، لا بالصمت.

Scroll to Top