لم نعد نناقش المفاهيم، بل نُصفق للشعارات؛ الحُرية: أصبحت كلمة يُستدعى بها كل انفلات، والانفتاح: غطاء فاخر يُستخدم لتبرير كل سطحية.
نُعلِّم أبناءنا أن يقولوا رأيهم من دون أن نُعلِّمهم كيف يُفكرون فيه. نُبارك لكُل خطوة جريئة، حتى لو كانت فارغة من المعنى.
هل حقاً نعيش حُرية؟ أم نعيش فوضى مقنَّعة باسمها؟
أحد الزملاء قال لي ذات مرَّة: «ابني يرفض كل شيء، ويقول هذه قناعتي!»، فسألته: «هل يقرأ؟»، قال: لا. «هل يُحلل؟»، أجاب: لا. قلت له: «إذاً، هذه ليست قناعة، إنها عدوى».
الحُرية تحتاج إلى عقل يُميِّز، لا رغبةً تنفجر. والانفتاح لا يعني فتح النوافذ، بل اختيار الهواء الذي نُدخله.
دول كثيرة عاشت تجارب مأساوية بسبب «حُرية بلا وعي». تجارب شبابية انجرفت نحو الإدمان، أو التطرُّف، أو الانتحار، ليس لأنهم أحرار، بل لأنهم تُركوا من دون بوصلة.
نحن بحاجة لإعادة تعريف المفاهيم: أن نُعلِّم أبناءنا أن الحُرية مسؤولية، وليست مكافأة، وأن الانفتاح لا يعني أن نُذيب الهويَّة، بل نُهذِّبها.
جيل اليوم لا يحتاج فقط إلى حُرية، بل فلسفة للحُرية. والمجتمع لا يحتاج فقط إلى انفتاح، بل لعقلٍ يقيس: ما الذي ننفتح عليه؟ ولماذا؟ وما أثره على وعينا وهويتنا؟
فالذي يفكِّر قبل أن يتحرَّر… ينجو. أما الذي يتحرَّر قبل أن يُفكر، فيقع في عبوديةٍ جديدة، تُصفِّق له وهو لا يدري.
أذكر ذات يوم أني سألت مجموعة طلاب جامعيين: «ما الفرق بين الحُرية والتسيُّب؟»، فجاءني الجواب: «الحُرية أن أسوي اللي أبيه!». سألت: «ومتى نقول هذا خطأ؟»، ردَّ أحدهم: «إذا الحكومة قالت!». هنا أدركت أن الوعي لم يُبن بعد، بل استُبدل بصدى.
في تقرير لمؤسسة فريدوم هاوس (2023)، تبيَّن أن الدول التي ترتفع فيها مؤشرات حُرية التعبير تشهد أيضاً ارتفاعاً في معدَّلات التضليل الإلكتروني، وأن الشعوب التي لا تملك أدوات التفكير النقدي، تُصبح فريسةً سهلة لـ «حُرية مزيَّفة تُباع على شكل محتوى».
وهنا الخطر الحقيقي: جيلٌ يُتابع مَنْ يسخر من القيم، مَنْ يقلِّد بلا فهم، ثم يظن أن «الصوت العالي» يعني وعياً، وأن «عدد المتابعين» يساوي صحة الفكرة.
وهنا تكمن مهمة المربي: ألا يمنع الحُرية، بل يُربّي على التفكير قبل إطلاقها. أن يُعلّم أن الانفتاح ليس انبهاراً، بل اختبار: هل ما ندخله يُنير العقل، أم يُعطّله؟
نحن لا نحارب الحُرية، بل نُنقذها من التزييف، ولا نرفض الانفتاح، بل نُريد له عقلاً يُمسكه من اليد قبل أن يفلت.
فالذي يصرخ باسم الحُرية من دون وعي كمن يلوِّح بسيف بلا نصل؛ يجرح نفسه أولاً، ثم مجتمعه لاحقاً.