سبتمبر 12, 2025

سلّمناه الهاتف…ليستريح منا!

سبتمبر 12, 2025

في زاوية من البيت، يجلس الطفل مشدوهًا أمام شاشة صغيرة، عيناه مشدودتان، فمه نصف مفتوح، وجسده لا يتحركتناديه، يحاول أن يلتفت، لكنه لا يسمعك فعلاًإنه في عالمكوكو ميلون Cocomelon” – ذلك البرنامج الملوّن السريع الذي يُبرمج انتباه الطفل على الإثارة الدائمة.

الطفل لم يعد يحتاج إلى من يعلّمهفقط إلى من يُشغّله.

نُعطيه الهاتف ليهدأ، ليصمت، ليكف عن الإزعاجفنرتاحلكن من الذي يُربّيه في هذه اللحظة؟  ليس الأب، ولا الأمبل الشاشة.

في دراسة نُشرت في مجلة Pediatrics عام 2022، وُجد أن الأطفال الذين يستخدمون الأجهزة الذكية لأكثر من ساعتين يومياً قبل سن الخامسة يُظهرون تأخراً في المهارات اللغوية، وانخفاضاً في التفاعل الاجتماعي بنسبة تصل إلى 42٪.

نحن لا نسكت الطفل فقطنحن نُسكِت قدرته على التخيل، على التجاوب، على بناء جملة كاملةكأننا نُطفئ جهازه العقلي بالتدريجونشحن جهازه اللوحي بدلاً منه.

الآيباد لا يُربّيلكنه يُبدّديملأ وقت الطفللكن لا يضيف لعقلهيُهدّئه خارجياًلكنه يُربكه داخلياً.

أخطر ما نفعله حين نُسلّم الهاتف لطفل صغيرهو أننا نُعلّمه أن التسلية أهم من الفهم، وأن السكوت أهم من المشاركة.

فيا آباء الشاشات، الراحة اللحظية قد تُكلّفكم تعباً طويلاًوكل مرةتفتكّ فيها من طفلكبجهازقد تكون أنت من يفتك بذكائه، بعفويته، بلغته، وبتكوينه النفسي.

الهاتف قد يكون أداة تعليمنعم، لكن حين يُستخدم بعد الوعيلا قبلهحين يُضبطلا يُطلَقوحين يُرافقه أب حيّلا أب مشغول.

في الماضي، كان الطفل إذا جلس مع الكبار يسمع لغة، يشاهد نقاشاً، يلتقط مفردات الحياةأما اليوم، فهو يُقضّي ساعات يومه مع شاشة تُكرّر أنشودة واحدة عشرين مرة، وتُبدّل المشهد كل ثانيتين، وتُضحكه بلا سياق.

لا عجب أن الطفل يملّ من الكتاب خلال دقيقة، ويصرخ إذا لم يتحرّك المشهد فوراً، ولا يستطيع أن يكمل جملة واحدة دون أن يُقلّد صوت شخصية كرتونية.

هل نُدرك أننا نُشكّل أدمغة أبنائنا على الإدمان البصري؟ هل نُلاحظ أن التركيز يقل، والانتباه يتشظى، واللغة تذبلونحن نصفّق لأنهساكت؟

في تقرير صدر عن منظمة Common Sense Media عام 2023، تبيّن أن الأطفال دون سن الخامسة في البيوت التي تُستخدم فيها الأجهزة كأداة تهدئة، يُظهرون سلوكاً أكثر تهيّجاً، وانخفاضاً في مهارات التواصل لاحقاً بنسبة 61٪.

التربية ليستإخماد صوت الطفل“…بل إطلاق عقله ليُعبّروليستملء الوقت“…بل صناعة الفكرة.

حين نُعطي الهاتف لنُريح أنفسنانُخسرهم بالتقسيطوكل لحظة صمت مزيف أمام الآيبادتُسحب من رصيد الطفولة الحقيقية.

فيا من تُربّون أبناءكم بـهدوء صناعي، تذكّروا أن الطفل الذي لا يزعجكم اليومقد لا يعرف كيف يتفاعل معكم غداً.

وأن أسهل قرارات اليومهي أصعب مشكلات الغدوأن الهاتف الذي يُسكت الطفل الآنقد يكون هو نفسه الذي يصنع انفصاله عنكم بعد سنواتحتى لو كنتم تجلسون في نفس الغرفة.

Scroll to Top