مايو 9, 2025

جيل يعرف كل شيء… ولا يفهم شيئاً

مايو 9, 2025

في زمنٍ تسكن فيه المعلومة طرف الإبهام، وتُستدعى باللمس لا بالكدّ، نشأ جيل يعرف كل شيء… ولا يفهم شيئاً. جيلٌ لا يجهل جواباً، لكنه يفتقر للسؤال. يحفظ المعلومة، لكنه لا يحاكمها. يُتقن الوصول، لكنه لا يُدرك الطريق. هذا التناقض لم يأتِ من فراغ، بل من فائض المعرفة وسطحيّة المعنى، حيث تتحوّل الثقافة من عمقٍ يُبنى إلى سرعةٍ تُستهلك.

في دراسة أجرتها منظمة OECD، تبيّن أن أكثر من 65% من الطلبة في الدول المتقدمة يستطيعون الوصول إلى المعلومة الرقمية بسرعة، لكن أقل من 20% يمتلكون القدرة على تحليلها نقدياً أو تطبيقها في مواقف حياتية. إنها كارثة تربوية مغلّفة بالتكنولوجيا. جيل Google ليس غبياً، بل ضحية تسطيح. سُرقت منه متعة البحث، وتلاشت فيه دهشة الاكتشاف. يعرف تاريخ الحرب العالمية، لكنه لا يدرك لماذا اندلعت. يحفظ أعراض الاكتئاب، لكنه لا يشعر بغيره. يتحدث عن الذكاء العاطفي، ولا يُجيد الإصغاء حتى لذاته. يعرف كل شيء… لأنه لم يُدرَّب على الشك، ولا على التأمل، ولا على البناء المعرفي المتدرّج.

مدارسنا تحوّلت إلى «منصات تحميل». المعلّم يشرح، الطالب يُصوّر، الجهاز يخزّن، ثم تُنسى كل تلك المعارف عند أول امتحان. يتخرّج الطالب بتقدير امتياز، لكنه لا يعرف كيف يكتب خطاباً، أو يُجري حواراً، أو يُحلل فكرة. نحن نمنحهم شهادات… لا فهماً. نُخرّج أدمغة تحفظ، لكنها لا تُنتج. تنفّذ لكنها لا تُبدع، تتلقى لكنها لا تُبادر.

نحن بحاجة إلى إعادة بناء المفهوم التربوي من جذوره. إلى تعليمٍ يُراهن على الإنسان لا على الآلة، على العمق لا الكم، وعلى الإبداع لا التقليد. تعليمٌ يعيد للتلميذ هويته، ويعيد للمدرسة هيبتها كمكانٍ للحوار والتفكير لا للحفظ والتلقين. لسنا بحاجة إلى تعليم يضيف إلى عقولهم معلومة جديدة، بل إلى تعليم ينقّي العقول مما علق بها من أوهام. نحتاج إلى تعليم يُدرّب على التفكير التحليلي، على الجرأة في الطرح، على مهارات الحياة الحقيقية: النقاش، التفاوض، حلّ المشكلات، الإقناع، التعاطف.

جيل اليوم لا يُلام. هو أذكى مما نظن، لكنه يعيش في بيئة تُشبعُه معلومات وتحرمه فهماً. بيئة تسوّق الذكاء الاصطناعي على أنه «بديل للإنسان»، بينما المطلوب أن يكون «مساعداً للإنسان المفكّر». وإذا لم نتدارك هذا الخلل، فإننا نبني جيلاً هشاً، مبرمجاً على الجواب… غير مدرَّب على السؤال.

Scroll to Top