الورق يتخرّج… والعقل غائب…
في زمن الشهادات، لا أحد يسأل: ما الذي تعلّمه هذا الخريج فعلاً؟ بل يُسأل: من أين تخرّج؟ كم المعدل؟ هل ختم الورقة؟ وتحوّلت الشهادة من دليل على نضج العقل… إلى بطاقة دخول للوظيفة. حتى أصبح بعض الخرّيجين يُلقَّب بـ «دكتور»، لكنه لا يُتقن كتابة صفحة بلا نسخ، ولا يُجيد شرح فكرة دون Google.
في دراسة صادمة من مؤسسة Gallup عام 2022، وُجد أن 11٪ فقط من أرباب العمل في العالم العربي يرون أن خريجي الجامعات مستعدون فعلياً لسوق العمل، وأن أكثر من نصفهم يفتقدون مهارات التفكير النقدي أو حل المشكلات. فما قيمة الشهادة… إن لم يَشتغل العقل؟ وما جدوى الألقاب… إن كانت تُغلف فراغاً داخلياً؟ وهل العقل يُقاس بورقة، أم بقدرة صاحبها على طرح سؤال حقيقي؟
في المشهد الرمزي، يقف طالب في حفل التخرج، يُسلّم الشهادة بيده… لكنه لا يذكر من سنواته الجامعية سوى الامتحانات المنقولة، والعروض الجاهزة، والمشاريع المنسوخة. لقد تحوّلت بعض الجامعات إلى مصانع ألقاب… والمجتمع إلى مهرجان ألقاب بلا مضمون. كل شيء يُقاس بـ: بكالوريوس، ماجستير، دكتوراه… لكن لا أحد يسأل: وماذا بعد؟ نحن لا ننتج خريجين… بل نُكرّر أوراقاً مطبوعة.
فيا من تُجملون الشهادة، لا تجعلوها دليلاً على الحضور فقط… بل شاهداً على الوعي. ولا تُطلقوا لقباً… قبل أن تسألوا: ماذا أضاف هذا العقل؟ فالقادم أخطر: شهادة… بدون عقل.
الخطر لا يكمن في عدد الشهادات… بل في غياب السؤال خلفها. أن يتخرّج الطالب وقد أُجبر على الحفظ… دون أن يُدرب على التفكير. أن يُدرّس منهجاً لا علاقة له بحياته، ثم يُطلب منه أن يُغير وطنه لاحقاً!
في دراسة أخرى أجرتها World Bank Education Global Practice، تبيّن أن أكثر من 58٪ من خريجي الجامعات في الشرق الأوسط يعتمدون على التلقين فقط أثناء دراستهم الجامعية، وأن أقل من 20٪ فقط يشعرون بأنهم اكتسبوا مهارات قابلة للتطبيق العملي أو النقاش الحقيقي. هكذا يظهر التناقض: كلما ارتفع عدد الشهادات… تراجع عدد الأفكار. كلما ازدادت الألقاب… خفت صوت السؤال.
الجامعة، في أصلها، مكان للعقل الباحث، للمخطئ الذي يتعلّم، للمجتهد الذي يصحّح. لكننا حوّلناها إلى: منصة تجميل سير ذاتية… لا مختبراً للأفكار. صار الطالب يحلم بـ «اللقب» أكثر مما يحلم بتغيير حقيقي في حياته أو مجتمعه. نُشيد بالخريجين في الحفل… لكن لا نسأل: ماذا سيفعل هذا الخريج لو انقطع عنه الإنترنت يوماً؟ هل يستطيع أن يكتب فكرة؟ أن يصوغ موقفاً؟ أن يعلّق على ظاهرة دون الرجوع إلى الذكاء الاصطناعي؟
الشهادة التي لا تُصنع بالوعي… هي شهادة موضوعة على الرف، لا على العقل. والعقل الذي لا يُختبر بالسؤال… هو عقل لا يزال في الطور الأولي، مهما عُلّق عليه من ألقاب.
فيا أصحاب القرار، اسألوا عن العقل قبل الورقة، وعن الفكر قبل المعدل، وعن الأثر قبل الاسم الوظيفي. نحن لا نحارب الشهادات… بل ندافع عن العقل الذي غُيّب تحتها. حتى لا نصحو يوماً… على جمهورية الشهادات، وفيها كل شيء مذكور… ما عدا الفِكر.