يوليو 4, 2025

ممتاز في الدرجات… ضائع في القرار!

يوليو 4, 2025

كان يبتسم، لكن صوته خافت.

يحمل ورقة نجاحه بيده، ويُخفي في قلبه سؤالاً لم يُجب عنه أحد: «أنا شاطر… لكن في ماذا؟». منحوه الدرجة الكاملة، لكن لم يمنحوه فرصة للبحث عن ذاته. تفوَّق في كل المواد، إلا في معرفة ميوله. كان الأول على دفعته، لكنه الأخير في ترتيب القرار. لقد اختزلنا التعليم في أرقام. وربَّينا جيلاً بارعاً في الاختبار، لكنه لا يُجيد اختبار الحياة.

جيلٌ يرى مستقبله كما يرى نموذج الإجابة: خيارات جاهزة بلا تفسير. جيلٌ خائف من الخطأ أكثر من اشتياقه للصواب. يُقال له: «الطب أفضل»، فيذهب… لا لأنه يُحب، بل لأنه يخاف أن يُخطئ. يسمع: «الهندسة وظيفة مضمونة»، فيُسلِّم عقله ويقفز، ثم يبدأ التخصص، ويتجمَّد الشغف.

في الكويت، تُصرف الملايين على نظام البعثات والتخصصات الجامعية، لكن كثيراً من الطلبة يعودون بعد عام أو عامين بتخصص لا يُشبههم، ولا يُشبه بلدهم. بعضهم يُعيد التوجيه، وبعضهم يتخرَّج مكرهاً، وكأن الشهادة سجن مؤقت، ويخرج إلى سوق العمل بلا صوت… بلا شغف… بلا مشروع.

دراسة من جامعة كامبريدج تشير إلى أن 41 في المئة من الطلبة الجامعيين يُغيِّرون تخصصهم خلال أول عامين. السبب؟ ليس الجهل، بل الغياب العميق للتوجيه، والفهم المتأخر للذات. المدرسة تُهيِّئه للامتحان، لكنها لا تُعلِّمه أن يسأل: «من أنا؟». البيت يحتفل بالمعدَّل، لكنه لا يُحادث الميول. والمجتمع يصفِّق للطب والهندسة، حتى لو مات الحُلم في الطريق.

كم من طالب تفوَّق في كل شيء، إلا في أن يكون نفسه؟ كم من خريج لا يُشبه تخصصه، ولا يجرؤ على أن يبدأ من جديد؟ هل حقاً نُعلِّمه أن يختار، أم نُمرِّره في خط إنتاج بلا أسئلة؟ نحن لا نحتاج إلى منهج جديد فقط، بل إلى فلسفة جديدة في التعليم.

نقترح مادةً رمزية تُسمَّى ببساطة: «أنا». ليست كتاباً ولا اختباراً، بل مساحة اكتشاف، يتدرَّب فيها الطالب على السؤال قبل الجواب، ويُدرِّب أذنه على الاستماع إلى شغفه، لا إلى ضغوط المجتمع. مادة بلا درجات، لكنها تمنح أعلى امتياز: معرفة الذات.

فيها يلتقي الطالب أصحاب المهن، يُخطئ في محاكاة الواقع، ويخوض مقابلات مع «نفسه» قبل أن يخوضها مع الوظيفة. ولأن القرار ليس رقماً نختاره، بل هو مصير نتحمَّله، فالشهادة يجب ألا تكون ورقة نعلِّقها، بل مرآة نواجه بها أنفسنا.

لا تسألوا الطالب بعد التخرُّج: «كم نسبتك؟»، بل اسألوه: «مَنْ أنت؟ ولماذا اخترت هذا الطريق؟». وإن لم يعرف الجواب، فليس هو مَنْ ضاع… بل نحن مَنْ أضعناه.

Scroll to Top